منتديات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدى عالم المعرفة الشاملة في الفكر و الفنون و العلوم الموسوعية المختلفة و الثقافة العالمية
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 بنية الحلم والواقع في قصيدة "طوبى لشيء لم يصل" /لمحمود درويش

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin



عدد المساهمات : 830
نقاط : 2599
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 15/02/2013

بنية الحلم والواقع في قصيدة "طوبى لشيء لم يصل" /لمحمود درويش Empty
مُساهمةموضوع: بنية الحلم والواقع في قصيدة "طوبى لشيء لم يصل" /لمحمود درويش   بنية الحلم والواقع في قصيدة "طوبى لشيء لم يصل" /لمحمود درويش I_icon_minitimeالأحد فبراير 24, 2013 9:27 am

تمهيد:
قصيدة طوبى لشيء لم يصل لمحمود درويش هي القصيدة السابعة من ديوانه محاولة رقم 7، تندرج ضمن المحاولات الشعرية التي راهنت على المساهمة فنيا في تجاوز واقع الهزيمة والإحباط الذي سيطر على الإنسان الفلسطيني والعربي عموما بعد هزيمة 1967 على وجه التحديد، وبعث أمل جديد في نفوس العرب من خلال تغيير وعيهم بكينونتهم. ومن هذا المنطلق فإن محمود درويش يعمل على تجاوز الإدراك السائد للأشياء اعتمادا على لغة تخلخل الجاهز وتقوض المشترك لبناء رؤية مغايرة تتجدد فيها العلاقة بين الإنسان وذاته من جهة وبينه وبين محيطه من جهة ثانية. هذه الرؤية الجديدة لا وجود لها خارج لغة الشعر، إنها بالأحرى "رؤيا" تختفي داخل الكلمات ولا تتخذ شكلا نهائيا بقدر ما تتمظهر بطرق مختلفة حسب أفق انتظار كل قارئ ومدى قدرته على تمثلها بطريقته الخاصة، هذا النمط من الكتابة الذي يقوم على توسيع المسافة بين الدوال ومدلولاتها المعجمية ينقلنا من عالم الاستعمال النفعي للغة إلى فضاء الشعرية الرمزية المفتوح على التعدد والتأويل، حيث تنفصل الأشياء عن نظرتنا إليها وتتحرر من مسمياتها في اتجاه خلق كينونة شعرية تنفلت من رقابة العرف والعادة والمنطق وتحلق بنا في فضاء يتحرر من كل القيود التي فرضتها مقولاتنا عليه، هذا العالم ليس هو الماضي أو الحاضر، إنه بالأحرى زمن الغد، زمن الأمل والحلم، زمن يسفر عن نفسه تدريجيا من خلال نظام جديد من العلاقات بين الأشياء تكف معه عن أن تظل ملازمة لحقولها المرجعية لتصبح "كما لو" أنها واقعية، أي بنية تخييلية تحفز خيال القارئ على لم شتاتها للرسو على معنى من المعاني المحتملة والمتسقة Gestalt[1].
هذا المعنى المنفلت أو الوهم الهارب هو ما تلهث وراءه هذه القراءة من خلال تجوالها في سراديب النص لعلها تساهم في فك بعض طلاسمه في اتجاه خلق صورة خيالية متماسكة ومتسقة.
المسافة بين الواقعي والخيالي:
يقول محمود درويش في مطلع هذه القصيدة:
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا أو شريدا.
هذا المقطع يبدأ بمتوالية تنمو بشكل طبيعي مألوف "هذا هو العرس الذي"، هذه المتوالية تضع القارئ على عتبة توقعات تنسجم وتصوره للعرس، لكن ما يحدث هو إقحام الشاعر لعبارة مفاجئة غير متجانسة منطقيا مع العناصر السابقة "لا ينتهي" هذه العبارة تخلخل بنية توقعات القارئ وتحتم عليه التأمل في المقطع واستحضار الدلالات الحافة بـ"العرس" من جهة، والدلالات المصاحبة لحقل "اللامتناهي" من جهة ثانية عساه يقف على أرضية مشتركة تمكنه من مد الجسر بينهما وخلق عالم متجانس كامن خلف المظهر غير المتجانس، لكنه سرعان ما يخيب أمله ويجد نفسه أمام حقلين متعارضين: حقل ينتمي إلى عالم المحدود "العرس" وحقل آخر ينتمي إلى عالم اللامحدود "لا ينتهي". بل أكثر من ذلك يستمر هذا التعارض في المقاطع الموالية: حيث تنتقل عدوى اللاتحديد "لا ينتهي". بل أكثر من ذلك يستمر هذا التعارض في المقاطع الموالية: حيث تنتقل عدوى اللاتحديد من مستوى الحدث "العرس" إلى المستويين الملازمين له، المكان: "الساحة" والزمان: "الليلة"، ثم يتسع في الأخير ليشمل الاحتفالي: "العرس" والمتعة الناتجة عن اللقاء بين الحبيبين من جهة، والمأساوي: "فلسطين" المرتبط بالشهادة والتشرد من جهة ثانية.
وعلى العموم، فإن الشاعر ينتقي عناصر من الواقع: العرس – الساحة – الليلة – فلسطين – الحبيب – الشهادة – التشرد، هذه العناصر ترتبط في ذهننا بمجموعة من المدلولات المتعاقد عليها، وتحيل على حقول مرجعية بعينها، لكن حين يؤلف بينها بفعل تجربة التخييل، فإنه يخلق سياقا جديدا تنفصل بموجبه عن مرجعياتها لتصبح عناصر غير محددة تحفز على تفعيل عملية التدليل signifiance يقول إيزر:
"…فكل نص يتضمن حتما عملية انتقاء من الأنساق الأدبية والاجتماعية والتاريخية والثقافية التي توجد كمجالات مرجعية خارج النص. وهذا الانتقاء هو نفسه تجاوز للحدود، بمعنى أن العناصر المنتقاة تؤخذ من الأنساق التي تقوم فيها بوظيفة محددة، وهذا ينطبق على المعايير الثقافية والإيحاءات الأدبية معا، وهذه تندمج في كل نص أدبي جديد بطريقة تنحل فيها بنية ودلالية الأنساق المعنية"[2].
وهكذا، فإن "العرس" في قصيدة محمود درويش ليس هو العرس الواقعي المتعارف عليه، ولكنه عرس له مواصفات مخالفة لمواصفات العرس السائد، آية ذلك أن العرس في الواقع مجموعة من المقومات الثقافية الموروثة تختزل عادات وتقاليد وقيم مستقرة في الذاكرة الجماعية، أما العرس في النص فهو عرس ثوري بالدرجة الأولى لأنه يقف في مواجهة مع التراثي يخلخله ويفرغه من مدلوله الراسخ فيخلق مسافة شاسعة معه، كما أنه يرتبط بسياق فلسطين وما يستدعيه من شهادة وتشرد. وإذا كان العرس الواقعي استمرارا لتقاليد عريقة في التراث الإنساني، فإن العرس الفلسطيني احتفال بالبداية اللامتناهية:
فأرخت البداية من خطاهم
وتأسيس على أنقاض كل ما هو سائد، أي ولادة جديدة انطلاقا من تجاوز ما هو سائد:
كل شيء ينتهي من أجل هذا العرس
مرحلة بأكملها.. زمان ينتهي..
هذا هو العرس الفلسطيني
إن ارتباط العرس بسياق فلسطين يجعل القارئ يستحضر شدة تعلق الإنسان بأرضه ووطنه خصوصا إذا كان يعاني من الغربة والنفي. وقد يقوده هذا الاستحضار إلى استخلاص نوع من التشابه الخفي الذي يتجاوز مبدأ "المقاربة" بين العرس الواقعي والعرس الفلسطيني، وهكذا فإن الصورة الخيالية التي تولدها تجربة التخييل في هذا المقطع هو تلك الصورة المستحيلة التي يتمثلها كل قارئ بطريقته الخاصة والتي يصبح بموجبها الإنسان الفلسطيني عريسا، وأرض فلسطين عروسا، والنضال من أجل تحريرها عرسا أزليا، ولحظة الوصال بين الحبيبين مشروطة بالشهادة أو التشرد لأن الحبيبة أسيرة في يد الأعداء ولا بد من فك أسرها لتتم المضاجعة ويحصل الإنجاب وتستمر الحياة. إضافة إلى ذلك، فإن ربط حدث العرس/النضال الدائم بمكان وزمان لا ينتهيان يعد بمثابة رسالة موجهة للإنسان الفلسطيني لتحثه على التسلح بالأمل وتكثيف نضاله وجعله هاجسا يلازمه باستمرار في كل زمان ومكان حتى النصر، وموجهة أيضا للعدو الصهيوني لتزرع في نفسه حالة من عدم الاستقرار وتجعله يعيش نوعا من الرعب الدائم، واختيار الشاعر لزمن الليل مسألة مقصودة فهو مرتبط بحدث العرس الذي يستدعيه ضمنيا، ومرتبط أيضا بالحرب لأن المناضل عادة ما يحتمي بالظلام لينفذ عملياته الفدائية حيث تقل الرقابة وتكون حظوظ النجاح أوفر، وهذا من شأنه أن يطرد النوم من عيون العدو ويجعله يعيش في حرص دائم وخوف مستمر.
ووفق هذا التأويل، فإن التعارض بين الاحتفالي "العرس" والمأساوي "فلسطين" "الشهادة"، "التشرد" يتراجع ليحل محله التكامل والاتساق، وكأن الشاعر عندما ينتزع النضال من سياق المأساة ليضفي عليه بعدا احتفاليا يصبح بموجبه طقسا يرغب كل واحد في ممارسته.
بنية الحلم والواقع:
إن هذه الصورة الخيالية التي حاولنا لم شتاتها، تختزل جوهر الرؤية الشعرية العميقة التي تتأسس عليها القصيدة، هذه الصورة المحورية تنمو داخل القصيدة وتتشعب من خلال ثنائية الحلم/الواقع. هذه الثنائية تتمظهر بطرق متباينة من قبيل: الغموض/الوضوح، المحتمل/السائد، التحدي/الاستسلام.. والقصيدة في مجملها تقوم على ترجيح كفة الحلم على كفة الواقع، إن لم نقل إنها تقصي الواقع من عالمها وتحتفل بالحلم وما يدور في فلكه، ويتضح ذلك من خلال عنوانها "طوبى لشيء لم يصل" ومن خلال مجموعة من المؤشرات التي يعمد من خلالها الشاعر إلى تغيير إدراكها للأشياء وكأنه يمارس نشاطا ظاهراتيا يراهن من خلاله على خلخلة المألوف وبناء علاقات جديدة بين وحدات اللغة تتسع فيها المسافة بين الكلمات والأشياء وتكتسب الموجودات تسميات جديدة[3] حسب تمثل كل قارئ لها.
ويمكن ملامسة هيمنة حقل الحلم في القصيدة وتهميشها لحقل الواقع من خلال الجدول التالي:

حقل الحلم
حقل الواقع
الازدهار (وازدهرت غداة أكملت الرصاصة جثتي)
الذبول (وذبلت في اليوم الذي سبق الرصاصة)
المستقبل (غداة-يسكن اليوم المجاور..)
الماضي الممتد إلى الحاضر (سبق الرصاصة-وقادتهم إلى عشرين عاما ضائعا)
الينوع (وحاسة الدم أينعت فيهم)
الإفلاس (أفلست الحواس)
الرؤية (وحدهم يرون)
غياب الرؤية (يستفاد من "وحدهم يرون")
الغموض (طوبي لشيء غامض.. فكو طلاسمه ومزقهم..إلخ)
الوضوح (مرفوض في عالم القصيدة)
الأمل (طوبي لشيء لم يصل..)
الإحباط (مرفوض في عالم القصيدة)
القيادة (وقادتهم (أي حاسة الدم) إلى الوجه البعيد..)
القيود (أفلست الحواس وأصبحت قيدا على أحلامنا.
التحدي والتمرد (السفح أكبر من سواعدهم ولكن حاولوا أن يصعدوا.. أقاموا من سلاسلهم سلالم..)
الاستسلام (مرفوض في عالم القصيدة)
البداية (أرخت البداية من خطاهم)
الانتهاء والزوال (كل شيء ينتهي من أجل هذا العرس)
يتضح من هذا الجدول أن حقل الحلم يهيمن على عالم القصيدة من خلال مجموعة من المؤشرات التي تحيل على الحيوية والأمل والتحدي..إلخ. أما حقل الواقع، فإنه أضيق بكثير من حقل الحلم مما يفيد تهميش الشاعر له، إذ باستثناء المؤشرات النادرة المرتبطة بهذا الحقل في القصيدة والتي تحيل على الضياع والإحباط والاستسلام، فإن موقف الشاعر من الواقع متضمن في موقفه من الحلم.
وإذا نحن تأملنا في المقطع التالي:
دمهم أمامي..
يسكن اليوم المجاور
صار جسمي وردة في موتهم
وذبلت في اليوم الذي سبق الرصاصة
وازدهرت غداة أكملت الرصاصة جثتي
وجمعت صوتي كله
لأكون أهدأ من دم غطى دمي
إذا تأملنا في هذا المقطع نجد فيه ملامح سردية تتمثل في تتابع الأفعال: يسكن – صار – ذبلت – ازدهرت – جمعت، وتكرار حرف العطف "الواو" مما يضفي عليه دينامية خاصة، إلا أن حركة السرد في هذا المقطع وفي المقاطع الموالية تبتعد عن الأسلوب الحسي وتقترب أكثر من الأسلوب الرؤيوي المغرق في التجريد[4]. ومن الطريق في هذه المقاطع أن الشاعر يعيد تشكيل "الزمان" و"المكان" بطريقة لا يمكن فهمها إلا بالتحرر من وطأة التقاليد التي تجعل من اللغة سلطة يصعب الانفلات منها ما دامت مؤسسة اجتماعية تجبر الجميع على الخضوع لقوانينها الصارمة[5]. وبما أن القصيدة التي نحن بصدد دراستها تراهن على خلخلة الدلائل لتغيير إدراكنا للأشياء وفهمنا للوجود، فإن التفاعل معها يقتضي فتح مجال أوسع أمام القدرات الخيالية للقارئ لكي يساهم بشكل فعال في خلق صورة متناسقة تشكل تمثله الخاص للنص بعيدا عن وطأة التقاليد التي تعتبر بمثابة حجاب يقف بينه وبين إدراك هذا النمط من النصوص الشعرية على وجه التحديد.
ومن هذا المنطلق، فإن الارتكاز على التقاليد في فهم قول محمود درويش:
دمهم أمامي
يسكن اليوم المجاور
صار جسمي وردة في موتهم.
من شأنه أن يخلق ارتباكا في ذهن القارئ من جراء هذا الانتقال المفاجئ من الحاضر (دمهم أمامي) إلى المستقبل (يسكن اليوم المجاور) ثم العودة بعد ذلك إلى الماضي (صار جسمي وردة في موتهم). أما إذا تحررنا من سلطة التقاليد واستحضرنا ترجيح الشاعر لكفة الحلم على كفة الواقع في هذه القصيدة ينتمي إلى عالم "الرؤيا"، وكأن الشاعر تصور بطريقته الخاصة بديلا لكل من الماضي والحاضر المرتبطين في ذهن الإنسان العربي بالإحباط والهزيمة، فأراد أن نشاركه في تمثل هذا التصور فحلق بنا إليه بواسطة لغة رمزية رؤيوية تمكننا من أن ندرك بطريقتنا الخاصة ذلك العالم الجديد الذي يتحرر فيه الإنسان "من جلد الهزيمة" على حد تعبير محمود درويش. هذا التحرر لا يمكنه أن يتم إلا إذا تمكنا من إدراك الأشياء بطريقة مغايرة للإدراك السائد. لتحقيق ذلك عمد الشاعر إلى الإعلان عن إفلاس الحواس التي تعتبر بمثابة جسر يصل الذات بالموضوع واستبدالها "بحاسة الدم". ولا يمكن فهم العمق الدلالي لهذه الحاسة في القصيدة إلا إذا استحضرنا الثأر باعتباره غليانا داخليا يكتسب بموجبه الدم دلالات مرتبطة بالشرف والكرامة والرجولة والهوية العربية الأصيلة، ولا يهدأ هذا الغليان إلا إذا تم الانتقام لشرف العائلة أو القبيلة أو الوطن بصفة عامة.
إن الإعلان عن إفلاس الحواس واستبدالها بحاسة الدم يضفي على القصيدة كثافة تعبيرية عالية، لذلك يمكن الانطلاق من "الدم" للدخول إلى أعماق النص وإدراك بعض مؤشراته الغامضة من قبيل:
دمهم أمامي..
فهذه العبارة لا تحيل على فعل المعاينة أي وقوف "الأنا" أمام دماء الشهداء، وإنما تحيل على فعل القيادة. ورد في لسان العرب: "القود: نقيض السوق، يقود الدابة من أمامها ويسوقها من خلفها، فالقود من أمام والسوق من خلف. وبهذا المعنى فإن الثأر هاجس ملازم للإنسان الفلسطيني يقوده للانتقام لشرف الوطن ولدماء الشهداء. ويؤكد هذا قول الشاعر:
أفلست الحواس، وحاسة الدم أينعت فيهم
وقادتهم إلى الوجه البعيد
فالدم هنا يتجاوز بعده المادي ويكتسب قيمة رمزية يتحول من خلال الماضي إلى صانع للمستقبل من خلال تأجيج فاعلية الثائر، وكأن الشاعر هنا يدغدغ الحس الرجولي للإنسان العربي ويستفزه للدفاع عن كرامته وحرمته بشكل تصبح معه المطالبة بالثأر والتمسك به دليلا على التمسك بالهوية العربية الأصيلة التي لا ترضى بالذل والهوان. وبهذا المعنى يمكن فهم الكيفية التي يصبح بموجبها الموت مصدرا للخصوبة والغليان وتصبح الحياة انبثاقا من الموت وهو ما تؤكده مجموع من المقاطع من قبيل قوله:
صار جسمي وردة في موتهم
وذبلت في اليوم الذي سبق الرصاصة
وازدهرت غداة أكملت الرصاصة جثتي أو قوله:
ماذا تريد الآن منا
ماذا تريد؟
خذهم بلا أجر
ووزعهم على بيارة جاعت
لعل الخضرة انقرضت هناك.
إضافة إلى ما تقدم، فإن ربط الدم بالثأر يمكننا من فهم الكيفية التي يقودنا بها مسار السرد في مجموعة من المقاطع التي وقفنا عندها إلى رصد تحولات الدلالة وكثافة التعبير التي يصبح بموجبها الدم شحنة دلالية تضفي على عملية السرد أبعادا شعرية عميقة، حيث ينتقل الدم من حقل الزمن الآتي:
دمهم أمامي..
يسكن اليوم المجاور..
إلى حقل المكان القريب:
دمهم أمامي يسكن المدن التي اقتربت..
ليصبح في الأخير ذلك اللامرئي الذي يحتمل كل ما له صلة بملامح الوطن المرتبطة أشد الارتباط بذاكرة الإنسان الفلسطيني والتي تؤجج حنينه إلى وطنه وتقوي تعلقه بأرضه.
دمهم أمامي..
لا أراه
كأنه وطني
أمامي.. لا أراه
كأنه طرقات يافا
لا أراه
كأنه قرميد حيفا
لا أراه
كأن كل نوافذ الوطن اختفت في اللحم.
إن امتزاج ملامح الوطن بالدم يدل على تأجيجها لفعلية الثأر ويدل في الآن نفسه على انتقالها من مستوى المظهر الذي يدرك بالحواس إلى مستوى الجوهر الذي لا يدركه إلا من أينعت فيه حاسة الدم:
وحدهم يرون
وحاسة الدم أينعت فيهم
وقادتهم إلى عشرين عاما ضائعا
والآن، تأخذ شكلها الآتي
حبيبتهم..
وترجعهم إلى شريانها
هذا الاحتفاء بالجوهر والحط من قيمة المظهر سمة مميزة للقصيدة بمجملها: فالثنائية الرئيسية في القصيدة الحلم/الواقع تقوم على هذا الأساس حيث يرتبط "الواقع" بالمظهر أي مستوى الشعور، في حين يرتبط "الحلم" بالعمق والجوهر، أي مستوى اللاشعور الذي يعتبره التحليل النفسي منطلقا أساسيا لفهم تصرفات الإنسان، لذلك يعتبره الشاعر "أكثر واقعية".
ويؤكد هذا الاحتفاء بالجوهر على حساب المظهر قول الشاعر:
وحدهم يرون
لأنهم يتحررون الآن من جلد الهزيمة
والمرايا
يستفاد من هذا القول أن الهزيمة سمة عرضية في الإنسان العربي لأنها مرتبطة بالمظهر "الجلد"، لذلك يدعو الشاعر إلى التحرر من هذا المظهر وإلى التحرر من المرايا أيضا لأنها تكتفي بعكس المظهر دون الجوهر.
هيكل القصيدة:
إن احتفاء الشاعر بالحلم والغموض والتحدي والجوهر.. ونبذه للواقع والوضوح والاستسلام والمظهر، كل هذا يدور في فلك الصورة الخيالية النواة التي حاولنا تجميع عناصرها المتناثرة بشكل يصبح معه الإنسان الفلسطيني عريسا وارض فلسطين عروسا والنضال من أجل تحريرها عرسا أزليا، مما يؤكد أن هذه الصورة الخيالية تختزل جوهر الرؤية الشعرية التي تتأسس عليها القصيدة، ويعزز ذلك تكرارها بشكل جزئي في وسط القصيدة ونهايتها وكأنها "لازمة شعرية" تضفي على القصيدة إيقاعا خاصا وتذكر القارئ بالهيكل الذي تتأسس عليه. كما أن ورودها في بداية القصيدة ونهايتها يوحي بأن شكل القصيدة يقوم على إلغاء الزمن الخطي والاحتفاء بالزمن الدائري الذي تتوحد فيه البداية بالنهاية، هذا البناء الدائري له دلالة على مستوى القراءة التي تصبح بدورها دائرية خلافا للقراءة الخطية التي تنتهي بانتهاء النص واستهلاك دلالته. القراءة الدائرية إذن متجددة على الدوام ويكتسب من خلالها النص حيويته واستمراريته –مثلما يكتسب الإنسان حيويته من خلال الدورة الدموية- لأنها تورط القارئ في دوامة يصبح بموجبها النص كائنا حيويا يوحي للقارئ كلما تأمله بدلالة من دلالاته الممكنة. فقارئ هذه القصيدة لا يصل النهاية حتى يجد نفسه من جديد في صلب الصورة الخيالية التي انطلق منها، وكأن الصور الخيالية الأخرى التي يحفل بها النص مجرد صور ثانوية هدفها إلقاء المزيد من الأضواء على الصورة الخيالية النواة التي توجه تمثل القارئ لها.

ملحــــــق

طوبى لشيء لم يصل!(**)
محمود درويش
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
في ليلة لا تنتهي..
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا أو شريدا
دمهم أمامي..
يسكن اليوم المجاور –
صار جسمي وردة في موتهم..
وذبلت في اليوم الذي سبق الرصاصة
وازدهرت غداة أكملت الرصاصة جثتي
وجمعت صوتي كله لأكون أهدأ من دم
غطى دمي
دمهم أمامي
يسكن المدن التي اقتربت
كأن جراحهم سفن الرجوع
ووحدهم لا يرجعون..
دمهم أمامي..
لا أراه
كأنه وطني
أمامي.. لا أراه

فكوا طلاسمه ومزقهم
فأرخت البداية من خطاهم
(ها هي الأشجار تزهر
في قيودي)
وانتميت إلى رؤاهم
(ها هي الميناء تظهر
في حدودي)
والحلم أصدق دائما. لا فرق بين الحلم
والوطن المرابط خلفه..
الحلم أصدق دائما. لا فرق بين الحلم
والجسد المخبأ في شظيه
والحلم أكثر واقعيه
السفح أكبر من سواعدهم
ولكن..
حاولوا أن يصعدوا
والبحر أبعد من مراحلهم
ولكن..
حاولوا أن يعبروا
والنجم أقرب من منازلهم
ولكن..
حاولوا أن يفرحوا
والأرض أضيق من تصورهم
ولكن..
حاولوا أن يحلموا
طوبى لشيء غامض!
طوبى لشيء لم يصل
فكوا طلاسمه ومزقهم
فأرخت البداية من خطاهم
وكأن العالم العربي أضيق من توابيت الرجوع.
أنراك يا وطني
لأن عيونهم رسمتك رؤيا.. لا قضية!
أنراك يا وطني
لأن صدورهم مأوى عصافير الجليل
وماء وجه المجدلية!
أنراك يا وطني
لأن أصابع الشهداء تحملنا إلى صفد
صلاة.. أو هوية
ماذا تريد الآن منا
ماذا تريد؟
خذهم بلا أجر
ووزعهم على بيارة جاعت
لعل الخضرة انقرضت هناك..
ألشيء.. أم هم؟
إن جثة حارس صمام هاوية التردي –
(هكذا صار الشعار، وهكذا قالوا)
ومرحلة بأكملها أفاقت –ذات حلم-
من تدحرجها على بطن الهزيمة، (هكذا ماتوا)
وهذا الشيء.. هذا الشيء بين البحر
والمدن اللقيطة ساحل لم يتسع إلا لموتانا،
ومروا فيه كالغرباء (ننساهم على مهل)
هذا الشيء.. هذا الشيء بين البحر
والمدن اللقيطة حارس تعبت يداه من الإشارة.
لم يصل أحد ومروا من يديه الآن.
فاتسعت يداه
كل شيء ينتهي من أجل هذا العرس..
مرحلة بأكملها أفاقت –ذات موت-
كأنه طرقات يافا –
لا أراه
كأنه قرميد حيفا –
لا أراه
كأن كل نوافذ الوطن اختفت في اللحم
وحدهم يرون
وحاسة الدم أينعت فيهم
وقادتهم إلى عشرين عاما ضائعا
والآن، تأخذ شكلها الآتي
حبيبتهم..
وترجعهم إلى شريانها
دمهم أمامي..
لا أراه
كأن كل شوارع الوطن اختفت في اللحم
وحدهم يرون
لأنهم يتحررون الآن من جلد الهزيمة
والمرايا
هاهم يتطايرون على سطوحهم القديمة
كالسنونو والشظايا
هاهم يتحررون..
طوبى لشيء غامض
طوبى لشيء لم يصل
وانتميت إلى رؤاهم
آه.. يا أشياء! كوني مبهمة
لنكون أوضح منك
أفلست الحواس وأصبحت قيدا على أحلامنا
وعلى حدود القدس،
أفلست الحواس، وحاسة الدم أينعت فيهم وقادتهم إلى الوجه البعيد
هربت حبيبتهم إلى أسوارها وغزاتها
فتمردوا
وتوحدوا
في رمشها المسروق من أجفانهم
وتسلقوا جدران هذا العصر
دقوا حائط المنفى
أقاموا من سلاسلهم سلالم
ليقبلوا أقدامها
فاكتظ شعب في أصابعهم خواتم
هذا هو العرس الذي لا ينتهي
في ساحة لا تنتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا.. أو شريدا
ـ من أي عام جاء هذا الحزن؟
ـ من سنة فلسطينية لا تنتهي
وتشابهت كل الشهور، تشابه الموتى
وما حملوا خرائط أو رسوما أو أغاني للوطن
حملوا مقابرهم..
وساروا في مهمتهم
وسرنا في جنازتهم
من تدحرجها على بطن الهزيمة..
الشيء.. أم هم؟
يدخلون الآن في ذرات بعضهم،
يصير الشيء أجسادا،
وهم يتناثرون الآن بين البحر والمدن اللقيطة
ساحلا
أو برتقالا –
كل شيء ينتهي من أجل هذا العرس
مرحلة بأكملها.. زمان ينتهي
هذا هو العرس الفلسطيني
لا يصل الحبيب إلى الحبيب
إلا شهيدا أو شريدا.




[1] - التوسع في هذه القضايا نحيل على كتابي إيزر:
ـ فعل القراءة، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، 1995، ص69 وما بعدها.
ـ التخييلي والخيالي من منظور الأنتربولوجية البنيوية، ترجمة حميد لحمداني والجيلالي الكدية، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء، ط.1، 1998، وخصوصا الفصل الأول.
[2] - التخييلي والخيالي، ص11.
[3] - يقول محمود درويش في نفس السياق: "الفضل الأساسي للشعر على اللغة لدى كل الشعوب، هو أن الشعر يجدد حياة اللغة دائما، وما يبدو جديدا اليوم سرعان ما يصبح قديما وكلاسيا، إذن، اللغة دائما بحاجة إلى إبداع يجدد حياتها ويحميها من إفراط الدلالات التي تتحول إلى نمط(…) فأنت تشحن اللغة بدلالات جديدة، تفرغ اللغة من هذه الدلالات وتحتاج إلى شحن بدلالات جديدة، هذه أولى متطلبات الشعر، وهو أن تعيد للغة حياة لم تكن موجودة سابقا، وأن تحميها من الشيخوخة والترهل". من حوار مع محمود درويش أجراه معه مجموعة من الشعراء النقاد ضمن كتاب محمود درويش المختلف الحقيقي: دراسات وشهادات، دار الشروق للنشر والتوزيع، ط.1، 1999.
[4] - للمزيد من التوضيح بخصوص "الشعرية الرؤيوية" نحيل على كتابي:
أحمد الطريي أعراب، الشعرية بين المشابهة والرمزية، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط (بدون سنة طبع).
صلاح فضل، أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، ط.1/1995، ص35-36 وص111 وما بعدها.
[5] - للتوسع في هذه المسألة نحيل على الدرس الافتتاحي لرولان بارث بالكوليج دو فرانس ضمن كتاب درس السميولوجيا، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال، 1986، البيضاء.
(**) ديوان محمود درويش، ج.2، دار العودة، بيروت (د.ت)، ص.295 وما بعدها./https://3alamalma3rifa.yoo7.com Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://3alamalma3rifa.yoo7.com
 
بنية الحلم والواقع في قصيدة "طوبى لشيء لم يصل" /لمحمود درويش
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» محمود درويش -قصيدة لاعب النرد /كاملة
» أمسيات كاملة للشاعر محمود درويش/ساعة و نصف مع المرحوم محمود درويش
»  بنية الثورات العلمية
» مسرحية الحلم الموءود وحساء الأقزام-محمد أبو الكرام
»  كتاب " بنية العقل العربي" للراحل محمد عابد الجابري

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات :: الفئة الأولى :: الكتابات الأدبية و الفكرية العربية و العالمية-
انتقل الى: